توفي جدي لأبي عام 1968 تاركاً لأبي وأختيه بيتنا الصغير ذا القلب
الكبير .
ولما كنت وأحمد لم نولد بعد , فكل ما نعرفه عن جدي يتلخص بصورة ( ع
المي ) وسند تمليك أخضر مصفر وراديو قديم بحجم نصف خزانة , جاء لأجله فيما بعد
تجار الزئبق الأحمر الآف المرات لشرائه مدغدغين أحلامنا بالثراء الفاحش دون نتيجة
.
عمتي الكبرى لم تتزوج وتؤسس
عائلة , وبالتالي فقد كانت تسكن معنا , أما الصغرى فقد تزوجت لدير الزور أيام الانفصال
, وكل قتلة يهودي لنشوف وجهها مرة .
المهم أن العمتين تنازلتا عن حصتيهما ببيت أبيهما لصالح أبي .
ظلت الأمور على ما هي عليه حتى العام 1981 حين طرقت الشرطة بابنا تسأل
عن أبي .
حسبنا يومها أن " أم وليد " قد اشتكت للشرطة احتجاجاً على الدوش اليومي الذي كان أبو
وليد يحصل عليه بفضلنا , بدأت أمي بالأيمان أن " أبو وليد " هو الذي
يتقصد الجلوس تحت مزراب المطبخ .
لم يفهم الشرطي الموضوع فسأل ببلاهة : وهل أبو وليد أحد الورثة ؟؟
- ورثة شو " يرد أبي " .
- البيت اللي ساكنينه , المالك أحمد نور الدين قد مات منذ ثلاثة عشر
عاماً دون أن يكلف ورثته أنفسهم عناء تسجيل واقعة الوفاة بالسجل المدني واستخراج
حصر ارث شرعي وقانوني وهذه جنحة بسيطة , لكن الجناية هي التهرب الضريبي وعدم تسديد مستحقات دائرة التركات بالمالية .
- تركات شو ؟؟ , الوالد الله
يرحمه ما كان حيلته إلا هالقصر يلدز .
- الدولة ما بتعرفلك هيك .
- والحل سيدنا .
انتفخ الشرطي بمناداة أبي له " سيدنا " وغدا أقل حدة وأكثر
طيبةً : بكرا يا " أبو أحمد " من الصبح بتنزل ع النفوس , بتمّوت المرحوم
وبوشّك ع المالية بتدفع اللي عليك .
كانت الخطوات بسيطة جداً , لكن تنفيذها في ظل روتين دولة الروتين هو
المستحيل بعينه .
طلب موظف النفوس شهادة من
المختار بواقعة الوفاة معززة بتوقيع شاهدين ومصادقة من الطبيب الشرعي .
المختار الصعيدي يعرف المرحوم
جدي وكان صديقه الحميم , وبالتالي لم تستغرق شهادة الوفاة لديه دقيقتين ,
ورفض أخد العشرة " أجار الختم " , بل أكثر من ذلك , فقد وضع طابعاً
مالياً " أبو الستين قرش " على حسابه .
عند الطبيب الشرعي " الدكتور عقدة أبو عقدة " كانت الأمور
مختلفة , فمنذ البداية اتخذ هذا الطبيب دور شرلوك هولمز : مين المرحوم ووينه هلق .
كاد أن يقول لأبي : ليش ما جبته معك .
- يا دكتور : مبارح اجت الشرطة منشان الوفاة , وقالوا لازم نروح
للمحكمة الشرعية والنفوس والتركات .
- شرطة ؟؟ محكمة , تركات , مصاري , أملاك ؟؟, شو بيثبت لي ما انتو
اللي قتلتوا المرحوم لتورثوه , لا بد من تشريح الجثة .
- جثة شو يا دكتور , الوالد صارت عضامه مكاحل , المرحوم عطاك عمره من
13 سنة .
- وصار لكم مرتكبين الجريمة
ومتسترين عليها 13 سنة وما انكشفتوا لهلق , صدق المفكر كابوتشينو كافياني : لا
توجد جريمة كاملة .
- دخيلك يا دكتور , شو جريمة وما جريمة , وكيلك الله موتة ربه , انضربوا
كلاويه قام – الله يرحمه - تسمم دمه ,
بعدا ما طوّل لأتكل
- وليش ما عالجتوه ؟؟
- كيف ما عالجناه , والله العظيم ما خلينا دكتور .
- مين عالجه آخر أيامه .
- سليم زريق
أمسك الدكتور سماعة الهاتف وطلب الدكتور سليم وتحادث معه لخمس دقائق
أو تزيد .
من الواضح أن الدكتور سليم قد زكّى أبي جيداً , فهو يعرفه ويعرفنا
بالاسم , وكان ولا يزال طبيب العائلة لثقة أبي العمياء به .
إثرها ختم الطبيب للمجرم أبي شهادة الوفاة على الفور .
....
هل انتهت مشاكلنا بهذا ؟
كلا .. لقد بدأت الآن .
ففي قسم الأموات والمحنطين بمديرية المالية , طالبوا أبي – بعد ألف
جولة بانورامية بين المحكمة الشرعية والنفوس والعقارية – بضريبة التركات مع
الفوائد والغرامات , والبالغة فقط " ثلاثة
وثلاثون ألف ليرة سورية لا غير " على
أن يعترض الوالد خلال ثلاثين يوماً من تاريخ تبلغ القرار .
فإذا علمنا أن القيمة السوقية لبيتنا - تلك الأيام - لا تتجاوز
الثلاثين ألفاً يتبين لكم فداحة الضريبة والمبالغة الفلكية بها .
أسقط في يد أبي , وهنا تدخل أحد المبغضين ونصحه بتوكيل محامٍ وليته ما
فعل .
كان " أبو حناك " أشهر محامي في جبلة والمحافظة كلها ,
وبينّزل المشنوق على حد قول الجميع .
أخذ أبي جميع الأوراق , ووضعها في مصنف سحاب وشد الرحال باتجاه مكتبه
.
انتظر أكثر من ساعة قبل أن يتمكن من الدخول إليه , وبمجرد دخوله وقف
ذاك وخرج من وراء طاولته للتأهيل والتسهيل : خير يا " أبو أحمد " ؟
- المالية يا أستاذ ناتفتني .
وهكذا شرح أبي القصة بحذافيرها , كان أبو حناك مستمعاً جيداً فلم يقاطع أبي سوى مرة أو مرتين للتعمق
بالتفاصيل أكثر , وبعد أن شبع من الاستماع
ومخمخ بالقصة منيح بدأ بالموشحات وجعل البحر دبس وطحينة : القانون رقم كذا لعام
كذا واضح وصريح , الفقرة كذا من اجتهاد محكمة النقض لعام كذا تقول كذا .
الخلاصة أنه أفهم أبي أن هذا النوع من الملكية لا ضريبة عليه , بل أنه
إذا أردنا , يستطيع مخاصمة المالية لجعلها
تدفع هذه الضريبة لأبي وليس العكس , ولأن أبي شخص عصامي وعلى قد حاله فإنه لا يريد
منه أتعاباً , فقط رسوم الوكالة وبعض المصاريف والنفقات الإدارية التي لا تتجاوز
مجتمعة , الثلاثة الآف ليرة سورية ..... فقط .
جف الريق بحلق الوالد , وعندما أفهمه أنه لا يمتلك هذا المبلغ , قال :
ما مشكلة " أبو أحمد " , اللي حامله هلئ هاته والباقي جيبو بكرا .
دفع أبي الألف اليتيمة التي بجيبه وعاد إلى البيت وهو يفكر بكيفية
تأمين الألفين الباقيين , ويعلم الله وحده كيف استطاع تأمينها قبل انقضاء ظهر الغد
.
..
نامت الأمور لسنة أو تزيد , جاء بعدها محضر من المالية يبلغنا إنذاراً
بالحجز الاحتياطي على أموالنا المنقولة وغير المنقولة لقاء مبلغ وقدره : خمسة وثلاثون ألفاً ومائتي ليرة سورية بالتمام والكمال .
أرغى أبي وأزبد , ثم توجه صاغراً لمكتب " أبو حناك " , لم
يكن المحامي قد وصل بعد , فقط شقيقه رفيق يجلس في مكتبه ويشرب الشاي .
دقائق ووصل الأستاذ : أهلين أبو أحمد , ابن حلال , من يومين محتار كيف
بدي أحكي معك , ألف مبروك .. ربحنا الاعتراض .
- وهالورقة شو يا أستاذ ؟؟ ..
يمد أبي يده ويعطيه إنذار الحجز .
قرأ " أبو حناك " الورقة على عجل , اصفر واخضر قليلاً ,
لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه , فنادى على رفيق ليعطيه اضبارة أبي .
تمعن فيها وطالعها بسرعة ثم بدأ يقارن بين ورقة فيها وورقة الحجز .
- همممممم , أيوه , شوف يا " ابو أحمد " , نحن قدمنا
الأعتراض بالتاريخ الفلاني , وربحناه ,
اسمع : قرار كذا لجهة الموضوع كذا .. إلخ ..
الخلاصة التي فهمها الوالد أننا
ربحنا الاعتراض وخفضت الدولة الضريبة من 33 ألف إلى 32 ألف , يعني خفضوا لنا ألف
ليرة بعد كل هذا العذاب .
ومع ذلك لم يقتنع , كيف
يخفضون ألفاً ثم تأتي الضريبة 35 ألفاً وشوي .
- هذه فوائد يا " أبو أحمد " 10 % فائدة , ولا علاقة لها
بأصل الضريبة .
- والحل ؟؟ .
- نعترض إلى دمشق , القانون كذا لعام كذا والاجتهاد كذا لعام كذا ..
المطلوب فقط ثلاثة الآف ليرة مصاريف سفر ورسوم اعتراض
تكرر سيناريو العام الماضي بحذافيره , ثم أصبح يتكرر كل عام .
أبو حناك يربح الأعتراض على الدوام مقابل ثلاثة الآف ليرة , فيخفضوا لنا ألف ليرة
ثم يزيدوا بدل الذي خفضوه ثلاثة أو أربعة
أضعاف بحجة الفوائد .
لم تبق في سورية جهة إدارية
أو قانونية لم يتقدم إليها أبو حناك باعتراض , ولولا وفاة الوالد لوصلت ضريبة
بيتنا إلى الجامعة العربية ومجلس الأمن .
جارنا الشيخ صفرا وقع بالأشكال نفسه , فاستشار أبي في الذهاب إلى
" أبو حناك " , استنكر الوالد الفكرة بشدة وقال :
- يا شيخ أحمد , إذا نصحتك نصيحة بتسمع مني .
- ليش ما أسمع !!.
- خود غراضك وطلاع نام بالحارة وخلي الدولة تاخد البيت , بربي أرخصلك من " أبو حناك " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق