05‏/01‏/2013

أيهم و صدر الكنافة :



..
بيتنا الأشبه بمضافة خريفيش نادراً ما كان يخلو من الزوار .. كانت نسوة الحارة يصطبحن عندنا يومياً , أما بعد العصر  فقد كان عجائز ومكحكحي الحارة من أولئك الذين احتفلوا بيوبيلهم الماسي أيام السفر برلك يجتمعون عند أبي أحمد ( المرحوم أبي ) في صحن الدار ليطلعوا منه على آخر مستجدات السياسة العالمية .
ومع ذلك , فقد كان من النادر أن نستقبل ضيوفاً مهمين , وفي المرات القليلة التي حصلت , لم يكن المرحوم أبي ولا أمي يقصرون أبداً .
في إحدى المرات زارتنا زوجة أحد كبار المسئولين في الدولة وهو الرفيق أبو ياسر حاجب مدير مصلحة مياه طرطوس
.. كان أبو ياسر صديق أبي منذ زمن بعيد , ولطالما حدثنا المرحوم بفخر عن مكانة صديقه ونفوذه ودالته على أهل الحل والربط , كنا جميعاً واثقين  بأنه يستطيع إنزال المشنوق عن حبل المشنقة , خصوصاً وأن مدير المصلحة بجلالة قدره لا يشرب قهوة الصباح إلا من تحت يدي صديق أبي المهم هذا .
كان لا بد من تجهيز البيت لاستقبال الضيفة غير العادية .. تخيّرت أمي بعض النسوة اللواتي يصلحن للجلوس بحضرة زوجة صاحب السمو حاجب مدير مصلحة مياه طرطوس ... وكان على رأس المعازيم خالدية الطرطوسية .
كانت المرحومة خالدية من ذلك النوع الذي له بكل عرس قرص , فما بالكم حين تكون العزيمة على شرف ابنة بلدها .. طلبت مني الوالدة منذ الصباح أن أتوجه إلى بيت خالدية ( أم بدر ) الكائن في الجبيبات الغربية قرب بيت لاعب جبلة الموهوب جاديبا , والذي بدا لي في ذلك الزمان وكأنه في آخر المعمورة .
كما تمنت على أبي أن يحضر صدر كنافة مرتب من عند مريش .. كان أبي صديقاً حميماً لأبي مصطفى الغزلات منذ أيام البواخر , وفي المرات التي دخلت فيها الكنافة منزلنا , كانت كلها شغل الغزلات .. كان يهز برأسه موافقاً على طلبات أمي المتكررة لكنافة مريش  وكأنه سيلبي الطلب على الفور و... يتجه ليحضر كنافة الغزلات , أما كنافة مريش فلم نذقها قط .
كان صندوق كزوز الكراش قد تصدر البراد منذ الصباح .. كم كنت أحب الكزوز , وأحب أكثر  الضيوف الأكابر الذين لا بد لهم أن يتركوا الرشفة الأخيرة بالقنينة أو الكأس , وكلما زادت الكمية المتبقية ,  كلما زادت أكابرية ومكانة الشارب ... أما ( العديمين ) فكانوا يتركون زجاجاتهم خاوية على عروشها ...   لا بد وأن زوجة المسئول ستترك أكثر من نصف الزجاجة , وهكذا سيتبقى لي الكثير لأشربه خلسةً خلال المعمعة .
كنت أمقت خالدية الطرطوسية لأنها تشرب زجاجتها حتى آخر قطرة , ولو كان لها أن تعصرها لفعلت .
نسيت أن أقول لكم أن أمي كانت تكره القهوة الجاهزة ولا تؤمن ببن نجار وزرزور وغيرهما من البن الجاهز .. كانت تصر على تحميس القهوة في البيت , وطحنها بالطاحونة اليدوية المصنوعة من النحاس الأصلي التي ورثتها عن أمها .
كنت وشلتي التاريخية قبل ذلك بيوم قد اشترينا بليرة ونصف سم سمك ( حبوب نبات الحوز ) من عند القسام , ولما لم نفلح بدقه بالهاون قررت وأيمن ومحمد طحنه بطاحونة القهوة إياها , وهذا ما كان .
سممنا يومها مينة السليك الواقعة قرب المسلخ ... عدنا – كعادتنا – بخفي حنين , لكن بقايا سم السمك كانت ما تزال في الطاحون التي لم نبال كثيراً بغسلها أو حتى مجرد تنظيفها .
جهزت أم أيهم ونسوة الحارة كل ما يلزم لاستقبال الضيفة الملكية التي شرفت بعد العصر بتكسي سكارسه من طرطوس .
وقفت سيارة المرسيدس المدعبلة مقابل مسمكة روبين بشارع المينا لتنزل راكبتها المميزة التي كانت بحجم فيلين ونصف دزينة نساء حبالى .
..  كنت وأخي الأكبر أحمد في استقبالها كحرس شرف أولاً , ولإرشادها إلى مكان البيت في الزواريب الضيقة التي يضيع فيها الجمل ,  ثانياً .
أطلت بعض النسوة الفضوليات من شرفات الشبابيك لتمتيع أنظارهن بصاحبة العصمة والمعالي وهى تدحدح باتجاه البيت شامخةً بأنفها ولسان حالها يقول : يا أرض اشتدي ما حدا قدي .
.. دَخَلَت البيت دخول الفاتحين بمصاحبة الأهازيج والزلاغيط والتأهيل والتسهيل .
و .. سرعان ما حضر صدر كنافة غزلاتي ينبعث منه اللهب .
أكلت خالدية الطرطوسية رحمها الله نصفه بلمح البصر , وشربت معه جالوناً من القطر أعقبته بنصف صندوق الكزوز للمساعدة على الهضم .
أما صاحبة السمو فلم تشرب أكثر من بق كزوز مصحوب بقضمة وحيدة من قطعة الكنافة , لله درها كم هى أكابر .
..
كان عليَّ – كوني الأصغر – القيام بوظيفة الخدمتجي لكل تلك النسوة , كانت أمي قد طحنت كمية لا بأس بها من القهوة في الطاحونة النحاسية إياها .
ولما كان من ضمن واجباتي غلي القهوة فقد سألت النسوة كيف يفضلن شرب القهوة .
رد الجميع بأنهم يشربونها " وسط "
وحدها خالدية الطرطوسية شددت علي بأنها لا تشرب القهوة إلا ( ساده ) لأنها مصابة بالسكري .
..
شرب الجميع قهوتهم , وخلال عشر دقائق ارتمت جميع النسوة أرضاً وقد ذرعهن القيء , وأولهن صاحبة العصمة .. وحدها خالدية  مريضة السكري وصاحبة المعدة الحديدية لم تشعر بشيء بل كانت صحتها أحسن حالاً من أي وقت مضى .
حضر الدكتور سليم الذي قرر إصابة الجميع بتسمم حاد ولا بد من المشفى , و.. هكذا بدأت السيارات دون انقطاع  بنقل المسكينات إلى هناك بإشراف المرحومة خالدية ذات المعرفة الجيدة - كما يبدو - بأبجديات الإسعاف الأولي , حيث تم هناك عمل غسيل معدة للجميع .
عدّت القصة على خير , لكنَّ زوجة المسئول لم تعد لزيارتنا قط , وقد علمنا لاحقاً أن زوجها قد تمت ملاحقته بقضية فساد كبيرة شغلت الرأي العام والجرائد طويلاً , فقد تبين للهيئة المركزية للرقابة والتفتيش ( عين الدولة الساهرة ضد الفساد والمفسدين )  أنه كان طوال سنوات يقوم بغش مديره وكبار الزوار بالقهوة الملغومة بالحمص , ويضب الفرق بجيبه .
أما أمي فقد ظلت تقسم لأبي حتى وفاته أن الجبنة كانت محمضة وكل الحق على كنافة الغزلات .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق