05‏/01‏/2013

أيهم وكشة الحمام

..
في صيف 1985 كنت أمتلك ألف ليرة بالتمام والكمال وهى مبلغ محترم بمقاييس تلك الأيام .
كانت سوسة الحمام قد تسللت إلى كما تسللت إلى الحارة كلها .. لم يكن أحد من أخوتي أو أقاربي مشغوفاً بالحمام , ولذا كنت الوحيد الذي ابتلي بهذا الداء وكان على أن أعلم نفسي بنفسي في ذلك العالم الذي يغلب على رواده الخسة إلاّ من رحم ربي .

..
كانت كشة منير هى الأشهر في جبلة , ويبدو أنه ملّها ويريد بيعها جملةً وتفاريق " هكذا أخبرني الصحاب " لأكتشف أن ألف ليرتي اليتيمة لا تشتري ربع طائر من طيور منير الممتازة , وهكذا كان علي أن أبدأ مجموعتي من قهوة الحمام التي في ساحة أوغاريت باللاذقية .
..
كانت القهوة تعج بالبشر من جميع الملل والأهواء والمشارب وقد ارتمت بعض أقفاص الحمام في الركن .
ما أن دخلت وعلائم الارتباك على وجهي حتى سألني أحدهم ولهجة ضيعة ضايعة تغلب عليه : بدك تشتري حمام ما هيك ؟
هززت رأسي بإرتباك .- شو بدك بهالسوسة لك عمي .. الله يلعن الحمام وبلاويه , قديش معك .- معي ألف
- والألف هون معك
- آي .

- ادع لربك واشكره , فيه كشه بتاخد العقل تركها صاحبها من ساعة هون وبده فيها ألف ليرة , أنت زلمة شكلك آدمي وأنا ما بدي شي سمسرة .
- لله يكتر خيرك يا عم , وين الكشة ؟؟
- ليكا هون بالقفص .
استدرنا نحو قفص يصلح ليكون ملعب تنس فيه ثمانية طيور رمادية كالحة وعلائم الهزال عليها .- ليك ما أحلاها هالكشة " وفتح القفص مخرجاً أول طائر كالح يذكر لونه بجرذان المجاري " , ما بيجنن هالكشميري
- كشميري شو ؟ .. أنا بدي حمام .
هذا الجواب دل عن جهلي المطبق بهذا العلم الجليل فرد علي :

- ليش شو شايف قدامك ؟!! , بس هاد اسمه كشميري .. كل نوع حمام وإلو اسم شكل .
- كويس يعني ؟
- قال ما كويس " يهز رأسه بإزدراء " أحلى حمام , وهاد صفي كازندي " يخرج آخر لا يختلف عنه بالشكل واللون بشيئ "
 - 
لك هاد نفسه يا عمو
- شكلك لسه غشيم بها الشغلة , ليك كيف هادا عيونه أكبر ومنقاره أصغر ..
..
دققت النظر فلم أر فرقاً بين الطائرين , خشيت من الأعتراف بجهلي أكثر فرددت :

- اي والله مظبوط .
- شايف ما أحلاك كيف بلشت تفهم , وهادا بوز مدبج " يخرج التوأم الثالث " وهادا اسطنبولي مفلل قلاب , وهادا مجري , وهادا أورفلي , وهدون الاتنين أسود دنب ..
أخرج ثمانية توائم متطابقة بثمانية أسماء مختلفة
- رح انتفلك جوانحهم هلئ منشان ما يهربوا من عندك .

- لك شو تنتفون يا عم , كيف بدهم يطيروا بعدين .
- عم قلك غشيم .. بعد أربعين يوم بيطلع ريشون وبيكونوا تعودوا ع السطح عندك .
- ساوي اللي بتشوفه .
..
حملت قفصاً صغيراً متهالكاً يتسع لكده أو طرنجان وقد تكدست به فوق بعضها ثماني حمامات وعدت إلى الكراج ومنه إلى جبلة .
.......
كنت أعد الأيام متشوقاً انتهاء الأربعينية لأبدأ رحلتي مع كش الحمام , كان الزغب قد بدأ يظهر في الأجنحة بينما الكسل والتنبلة بسبب جميع الأمراض يعتري الحمام .. كان الحمام يقيء الماء كلما حملته , ومصاب بالحمو وتدرن حواف المنقار إضافة لأمراض ( أبو خريون وأبو هدلون ) وغيرها من الأمراض الشائعة .
كان علي تكحيل مناقير الحمام كل يوم بالزيت الحلو , وتشميسه بعد العصر لساعتين ...
وما عدا ذلك فقد كانت الأمور تسير على ما يرام .
....
جاء اليوم الموعود وقد تحضرت له بصفارة حكم أخذتها من جاري محمد وبشبكة كش مزودة بذراع طويلة .
كششت الحمام فلم يتحرك ثم قفز من جهة إلى جهة ...
هجمت عليه بالشبكة فطار بكسل ليحط على أنتين جارنا " أبو فادي " ..
بدأت أرميه بالبحص وأنا أصفر له فخرج أبو فادي يشتمني بكل ما أوتي قاموس الشتم في الحواري من بلاغة .
..
بقى الحمام على الأنتين حتى المساء ليهبط إلى القن مع أذان المغرب .
..
تكررت القصة في اليوم التالي والأيام التي تليه حتى شكوت الأمر لصديقي أيمن في المدرسة .
كان أحمد شقيق أيمن أحد العتاق في تربية الحمام , وقد وعدني أيمن بإحضاره لمساعدتي وهذا ما كان .
وصل الإثنان قبيل الغروب .. كان وقت تزحزح الحمام عن مكانه التاريخي قد حان .
وعندما رأي أحمد هذا المنظر صرخ قائلاً :

- الله لا يعطيك العافية , لك شو هالمصايب اللي لاممها .
- مصايب شو ؟؟ .... صفي كازندي وكشميري وبوز مدبج ومجري و .....
قاطعني : لك شو عم تحكي ... لك هاد كله قرباطي ..
بربك فيه عاقل بيكش قرباطي .. لأ وشو .... وأناتي ختايرة كمان .
.
لك هاد الحمام المجلّف حتى تخبيطة للكشة ما بيمشي حاله .
..
في اليوم التالي ذبحنا الحمام ثم .... أطعمناه للقطط لأنه لم ينضج حتى بعد أربع ساعات متواصلة من السلق على البابور .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق