05‏/01‏/2013

أيهم و ... المقامرون الخمسة :



..
اليوم الأول من عيد الأضحى لعام 1983 قد شارف على الإنتهاء .
آخر قرش من العيدية تبخر قبل هذا بكثير ... فمنذ الظهر لم يعد في الجيبة قرشاً .
كانت قدمي تؤلمني من الحذاء الجديد الأشبه بقفص معدني ضيق يحيط بها من جميع الجهات , وبنطالي الواسع قليلاً يسحل إلى خصري فأرفعه كل حين .
كنت أعرج قليلاً وأنا أراوح الخطى بين باب الحديقة وباب جامع السلطان المقابل له منتظراً أذان المغرب علّه يأتي بأحد الجيران الكرماء الذين يريدون قضاء المكتوبة لوقتها في المسجد الجامع .
لاح أبو سمير أحد كبار المحسنين في حارتنا .. هرعت نحوه بفصعتي وكلي أمل بليرة أو نصفها على أسوأ تقدير .

- كل عام وأنت بخير عمي أبو سمير " وأمسكت يده وبدأت بتقبيلها وضعها على رأسي " . 
 - وأنت بخير يا ابني يا أيهم ,...  كيفو أبوك يا ابني . 
- بيسلم عليك كتير .
- الله يسلمو ويسلمك يا ابني .
كنت قد تركت يده التي أدمت شفتاي من كتر التقبيل .
لا يبدو عليه أنه سيحن بقرش , بل همَّ بالمسير إلى الجامع وهو يبتسم لي , من الواضح أن حسابي كله طلع ع الشرقي , بس وين بدك تفلت مني يا أبو سمير :
- عمي أبو سمير إذا بدك تعطيني العيدية وما معك فراطة , ليكو أبو سليم رسلان صافف ع الزاوية وهوه بيصرفلك .
بدت علائم الامتعاض على وجهه الطيب , ومع ذلك مد يده إلى جيبه مخرجاً ليرة ورقية : كل عام وأنت بخير يا ابني , هيدي عيديتك أنت وأخوك .
تمام يا عمي , أردت امساك يده مجدداً لتقبيلها فتمنع على الفور , لعله خشى من ليرة أخرى , خصوصاً وأنه واثق من أن شقيقي أحمد لن يرى قرشاً منها .
تابع طريقه إلى الجامع بهدوء وأنا إلى الحديقة حيث العيد .
كان البجّه يقف قرب الحنفية أمام طاولة عليها ستة أوراق شده ( من الواحد إلى الستة ) ومعه كوب بلاستيكي داخله زهر ( نرد ) وهو ينادي بصوته الرفيع المبحوح : ربعك بليرة , نصك بليرتين , ليرتك بخمسة ..  تعا جرب حظك تع .
لم أك حينها أدري ما هو القمار وما مدى حرمانيته .. أعلم فقط أن من يقدم على هذه الألعاب هم الأولاد الصائعون الزعران , ولم أرَ نفسي أحدهم قط .
كان أيمن  قد حدثني طويلاً أثناء المدرسة عن لعبة الكحلا التي كان يلعب بها على الدوام عندما يذهب وأهله لزيارة أقاربه في السكنتوري باللاذقية .
حدثني عن أرباحه الضخمة التي يجنيها كلما ذهب إلى هناك حتى أن الذين يديرونها قد امتنعوا عن السماح له باللعب لأنه لم يحصل قط أن أخطأ في معرفة مكان الختيار , وكان يكذب بالطبع , وأنا أعرف أنه يكذب , لكنني كنت أستمتع بكذبه وأطالبه بالمزيد وأنا أحسد حصافته الموهومة هذه .
عندما طالعني البجه بقامته الفارعة وصوته المبحوح , تذكرت أيمن وموهبته في الإيقاع بعتاة المقامرين , فقررت أن أكونه اليوم .
كان العيد قد بدأ يفرغ من رواده  وخف الزحام نسبياً , لكن الكثيرين لم يقرروا الرحيل بعد .
اقتربت من البجه طالباً منه صرف الليرة إلى أرباع , وهذا ما كان .
وضعت الربع على الرقم خمسة .. وضع الزهر داخل الكوب وهزه وطب الكوب .. كان صراخه يملئ الفضاء : تعا شوف كيف بده يربح تع .
وقف بعض الأولاد الحشريين , وعندما أصبح عدد المتجمهرين مرضياً رفع الكأس المطبوب عن الزهر , كان الزهر على الرقم اثنين : خسر , خيراااا بغيرا .
شعرت بالغبن والقهر والفشل من أن أكون أيمن للحظات فأخرجت الربع الثاني بغضب وأعدته على الرقم خمسة , تكرر المشهد , وعندما رفع الكوب كان الزهر مطابقاً للرقم الذي اخترته .
أخرج البجة ليرتي الورقية التي صرفتها منه قبل قليل وهو يصيح بإستعراض مسرحي أنني ربحت ليرة حلالاً زلالاً , وأخذ يشجع باقي المتجمهرين للعب والربح مثلي .
أعدت الكرّة , وعاد رقم الزهر مطابقاً للرقم الذي اخترته .. أكثر من عشرين مرة وأنا لم أخسر قط .. كنت أعيد الربع نفسها كل مرة لأربح ليرات جديدة حتى لم يعد مع البجة قرشاً .
كانت أربع طاولات قمار تصطف مجاورة لطاولة البجة , أحس أصحابها بشيء ما غير عادي يحصل عند طاولة زميلهم فتجمهروا وبدؤوا بالغش .
 - ما خض الزهر منيح , خليه يعيدا .
 - الزهر ما مظبوط , خود هالزهر هاد .
 - إيد البجة اليوم مدري شو صايرلها , رح خض الزهر عنه
وإلى ما هناك من هذه الآعيب التي لم يستفيدوا منها , فقد كنت أربح على الدوام .
كان البجة قد استدان بعض النقود من زملاء المهنة , ثم أصبح يستدين على الدوام  خصوصاً بعد أن تطور التحدي ليصبح : ليرتك بخمسة .
لم أكن معنياً بمقدار المبلغ طالما أنني الرابح على الدوام , حتى أنه خلال ساعتين لم يعد هناك أموال جديدة .. صبت غلة الطاولات الخمسة كلها بجيبي .. أكثر من مائتين وخمسين ليرة كسبتها بجدي وتعبي وكدي  , كان موعد صلاة العشاء قد أزف  ولم يعد في العيد كله من أحد الا المتجمهرين على طاولة القمار لمشاهدة المونديال .
بدأ البجة بالشتم والسباب وافتعال مشكلة من لا شيئ .. أقسم على الجميع أن سبب خسارته من هذا الفلعوص ( يقصدني ) هو ضياع شنصه بسبب حنفية الماء الخربانة المجاورة لطاولته , وأن عليه منذ الغد أن يحضر لها جلدة جديدة وإلا فأنه سيظل يخسر على الدوام ... بدأ بشتم مدير البلدية الذي لم يكلف نفسه إرسال من يصلحها قبل العيد .
أردت الذهاب إلى البيت فتجمهر الخمسة حولي يمنعوني : حبيبي طلاع بالمصاري قبل ما تروح .
شعرت بالخوف وبدأت بالبكاء .
كان غلبو وزوجته دلال يراقبوننا  بصمت وهما جالسان على المقعد المجاور لباب الحديقة والمقابل لنا .. وفي اللحظة التي أخذوا فيها مني جميع النقود صرخ فيهم غلبو : رجعوا له المصاري لهالولد يا عرصات , وفي نفس اللحظة قامت دلال كالنمر وبيدها سكين ( يطقان ) طولها نصف متر وهى تشتمهم : يا بترجعوا المصاري لهالصبي يا اما بخلّي مصارين الواحد فيكن تتدندل من بطنه .. متتقاووا ع الصبي , لأ وشو , وقدامنا كمان ؟؟.
أفرغت دلال جيوب الخمسة وهى تلوّح باليطقان  وسلمتني كل ما فيها .
أخذ غلبو يوبخ المقامرين الخمسة : يا حمير .. من أول ضرب زهر مبين شنصه جايه .. أنا بلعبه ؟؟ برجع له مصرياته وبكعره , لك هادا يروح ع كازينو القمار بهاللحظة بيفلّسه ... بس طالما رضيتوا تلعبوه بدكون تعطوه مصاريه ع دوز باره .
أعطتني دلال فردة جراب قديمة وضعت فيها غلتي وأمسكت بيدي وسارت بي لغاية دكان يوسف عميش خشية أن يتبعني المقامرون ويخلصوني رزقي .
..
في الصباح التالي شاهدني البجة متجهاً نحوه فطردني من منتصف الطريق , وكان بهذا قد قطع الطريق أمامي إلى الأبد عن هذه المهنة الجليلة .. اتجهت نحو عربة طلال بوظه حيث أكلت سندويشة فشة مدعومة وشربت عدة كزوزات .
قبيل الغروب صفّرت جيبي كالأمس فاتجهت إلى باب الجامع لاصطياد جار جديد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق