05‏/01‏/2013

محمود التكسي

..
أيكم يجهل محمود علوش , فقيد الدراما الجبلاوية والسورية والكونية , وأحد أبرز معالم المنطقة الواقعة بين المسلخ ونادي المعلمين .

كان محمود عاشقاً للجمال بكل أشكاله .. كلا , لم يكن عاشقاً للجمال بل للأنثى أياً كان عمرها وشكلها ولونها وطائفتها ولا يميز كثيراً بين عجوز مولودة أيام العصملي و فتاة ولدت عام 1985 .
محمود الذي يعمل كتكسي حقيقي على الكورنيش يصر على الدوام على ملاحقة كل تاء تأنيث ساكنة ومتحركة في تلك البقعة الجغرافية ويا ويلها وظلام ليلها البنت التي 
تلفت نظره ولو بشكل عابر .
كان يصر يومياً على توصيل كل فتاة إلى بيتها , ولا يستكين إلا بعد أن تصل آخر أنثى تجوب الكورنيش للبيت .


نظاراته السميكة ومشيته المتهالكة وبنيته المريضة ربع المنغولية تضفى نكهة خاصة لغرامه الذي يتسع لكل نساء الكون  .
كان متاجراُ بارعاً بالقائد الخالد , بل إن هذا القائد كان وسيلة معيشته الوحيدة , فالصورة المعدنية الصغيرة مع الدبوس التي طالما استعملها المنافقون على ياقات جاكيتاتهم وجدت طريقها إلى لحم صدره الأيسر .. وكان في كل المناسبات واللامناسبات يكشف عن صدره ليحج الآخرين بها على الدوام .

نجح بهذه الطريقة بشفط مئة ألف ليرة بالتمام والكمال من وزير الدفاع المزمن مصطفى طلاس عندما جاء ليتحف طلاب جامعة تشرين بشعره الخنفشاري وذكريات غرامياته المأنتكة .

أمام المحافظ ورئيس فرع الحزب " محسن الخير ( أبو لمبة ) " ورؤساء الأفرع الأمنية وقف محمود يقارع الماريشال طلاس ويتحداهم جميعاً , كاشفاً عن صدره المتقيح لتطالعهم قرعة المعلم المثبته بدبوس معدني يخترق لحمه , قائلاً بصفاقة وفخر : أيكم يحب سيادة الرئيس مثلي فليفعل مثلي  .

كانوا جميعاً يدركون أن حبهم العقائدي لسيد الوطن ليس من النوع الجحيشي , فهو قائم على مبدأ " نيال مين نفّع واستنفع " , وهكذا نجح محمود بإردائهم أرضاً بضربة غادرة واحدة .

نظر الجميع إلى طلاس مترقبين ردة فعله .. طلاس الذكي الذي يجيد أكل الكتف أكثر من غيره استدرك الموقف على الفور واشتراه بكام ليرة : أنت المواطن الأول في سورية يا بني ... " ثم نظر إلى اللواء قائد المنطقة الساحلية قائلاً : اصرفولو بكرا مكافأة مئة ألف ليرة على موقفه الرائع هذا , وصدّر الكتاب بإسم نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة " .
في اليوم التالي كان محمود منذ السادسة صباحاً على باب قيادة المنطقة , شرف الرفيق اللواء عند الحادية عشرة .. في الحادية عشرة والنصف أدخلوه لقلم المنطقة وأعطوه شيكاً إلى المصرف التجاري السوري بمبلغ 50 ألف ليرة كاملة .
محمود بنظارته السميكة لم يستوعب الخمسين ألف على الفور , وعندما أستوعبها تعالى صراخه بأن المبلغ هو مئة ألف .. طرده العناصر وأرادوا ضربه فوقف كالليث بينهم كاشفاً عن صدره وهو يقول : اللي بيضربني كأنه عم يضربه لهاد .. أخذت العناصر الرعدة وتوقفوا بسحر ساحر عن فعل شيء , دخل مقدم مستفسراً فأفهمه مساعد أول بالموضوع .. فأشار له هذا أن يتبعه , وأوقفه أمام مكتب اللواء , ثم دخل قليلاً ليخرج طالباً منه الدخول  .
محمود المعتاد على مقابلة رتب ومسؤولين أرفع مقاماً من هذا اللواء الطرطور بكثير دخل كالديك المنفوش .
اللواء الدمث أفهمه ببساطه أن المخصص هو 50 ألف فقط , فرد محمود : سيدي , هل تعني أن سيادة العماد كذّاب لا سمح الله .
كاد اللواء أن ينشق من الغيظ دون أن يتمكن من قول شيء , كان من الواضح أنه أراد ضب الخمسين ألف الثانية بجيبه .
أردف على الفور وهو يناوله شيكاً مسطراً منذ الأمس لأمر محمود : أعطني الشيك اللي معك لقلك وخود هاد وعيفني كرمال الملائكة  .
خرج محمود منتشياً وهو يوقف تكسي يوصله إلى التجاري السوري .
..
بالطريقة نفسها رمم ساقه التي كسرها له أحمد الحامد , وأكمل بناء بيت أهله وبلطه و .. فرشه أيضاً .

حينها سجل على بيت بإحدى الجمعيات التعاونية .. الناس ينتظرون سنوات للحصول على غرفة سطوح في هكذا جمعيات .. محمود بحصافته ودباقته حصل على أفضل بيت بالجمعية خلال أربعة أشهر بعد أن جعل مجلس الادارة وجميع الأعضاء يعبدون العجل .
صارت الجمعية بدها حج خلاص , رئيس الجمعية المشترك بأربع خمس أسماء وهمية تنازل له عن أحدها ليخلص منه خشية فتح دفاتر قديمة هوه بالغنى عنها .

توظف بنفوذ بعض الأصدقاء بشركة المرفأ وجاء تثبيته بسرعة خرافية بعد أن كرّهه حياته وعيشته لوزير النقل .
حينها شعر محمود بالراحة وآن لهذا الفارس أن يستريح  .

لا ينقص محمود إلا زوجة صالحة يعيش معها بسبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات .
 
كانت أميرة البرونزية اللون أجمل بنات جبلة وجبلها , طرق بابها سائلاً عن أبيها فقالوا أنه في الضيعة ... ركب الميكروباص ووينك يا حلبكو .
طلبها من أبيها الذي لم يتحمل جرأته فطرده شر طرده .
كتب محمود حينها معلقته الشهيرة   :
أما كفاكِ دلالاً يا بنتةَ القدرِ .. حتى أبوكِ على الحبِّ العظيمِ خري

ثم رماها وأباها وقريتها وراء ظهره على الفور .
..
نسينا أن نخبركم أن محموداً صديقنا شاعر لا يشق له غبار , ولطالما قاطع خطباء البعث على المنابر بأبياته ومعلقاته المبدعة , حتى أنه في إحدى المرات خلّى حافظ الأسد على مدرج جامعة دمشق يرفع العشرة  .

 كان الرفيق المناضل كلما تكلم بحرف يقاطعه محمود بمعلقة , استهل الأسد خطابه بالقول : أيها الأخـ ...... محمود ما خلاه يكمل وسلخه معلقة , .. تابع الأسد : الموا........ معلقة أطول , .. يا جما ...... نفس الشي .
مل الأسد من المقاطعة المستمرة وهو المعتاد على رغي الحكي على الدوام بينما يأخذ الرفاق المناضلون دور المستمعين فأمر بطرده على الهواء مباشرة .
شفعت علويته له , فأكتفى حرس الرئاسة بضربه كفين وحلقولوا .
..
أحب محمود ريم ثم ميسون الموظفة في مصرف التسليف , ثم أحب كل ميسون في الكون وآخرها ميسون اللي بتاكل الميلانة ع الكورنيش .. والتي قال فيها  :

أحبكِ ميسونٌ ونورُ الفجرِ قد لاحَ .... فأنتِ واللهِ مثل نورِ القدّاحهْ

ثم قرر اختصار كل ميسوناته ببيت شعر يتيم , فقال  :

أتراها تحبني ميسونُ ..... أم توّهمتُ والنساءُ ظنونُ

وهو يقسم أن الشعر له , سرقه منه نزار قباني .
..
في دورة المتوسط كان الفارس الذهبي , شهيد الوطن والمواطنين , وأمل فلسطين في التحرر " باسل الأسد " يشارك في البطولة بقوة .. محمود الذي جهز قصيدة مطنطنة لالقائها في المناسبة , لم يستطع الوصول لبطل الأمة نتيجة الطوق الأمني الحاد  .
تسلل من سور المدينة الرياضية عبر اسطبلات الخيول  .
كان الفارس الذهبي يحضر للجولة الأخيرة , وصوت عدنان بوظو عبر المكبرات يدوي , طالباً من الجمهور الصمت كي لا يجفل الحصان .
استجاب الجمهور المقموع خشية الدواليب , وأصبح الملعب بأكمله كصف مدرسة ابتدائية بحضور أستاذ ظالم  .
البشر كأن على رؤوسها الطير , زت الإبرة أينما شئت في سورية كلها بتسمع رنتها , حتى الناس في بيوتها خيّطت أفواهها خشية أن يجفل الحصان  .

عندها انطلق الفارس الذهبي بإتجاه أول حاجز قفز , وأنطلق محمود معه صارخاً : سيدي . خود سماع هالقصيدة .
جفل الحصان , وجفل فارسه الشجاع أكثر .. الفارس الفذ غير المعتاد على المتغيرات الطارئة للسيناريو فشل في السيطرة على الحصان الذي سقط أرضاً مسقطاً فارسه معه .
...
إختفى محمود لأسبوع في أقبية فرع المعلومات برئاسة الجمهورية , ثم شفعت له علويته – ككل مرة – ولعل معرفته الوثيقة بأبناء العميد عبد الله زيدان رئيس الفرع ساهمت في تقليل مدة استضافته .. لكن الذي شفع له أكثر هو إدارة دورة ألعاب البحر المتوسط التي أعادت السباق كرمى لعيون الفارس الذهبي , ومن ثم تتويجه بذهبية البطولة .
الفارس الآخر في الفريق نفسه  والذي لم يسقط عن جواده قط , وكان من المفترض أن ينال ذهبية البطولة لولا محاباة لجنة التحكيم ما يزال يقبع في سجون الأسد رغم كل تلك السنين التي شهدت نفوق باسل وأبي باسل وصهر باسل , وربما شقيق باسل عما قريب .
..
توفى محمود بالجلطة القلبية في الأيام الأولى لحكم بشار , وفقدت جبلة بهذا أحد المعالم التي حفرت بقوة في الذاكرة الجبلاوية .

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق