..
- ما من مرة يطالعني فيها بوست لعلي جبر يخاطب فيه ( أحفاد سارقي الجيجات ) إلا وأبتسم وتعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام الغابرة في مرحلة الشلفنة وبدايات المراهقة .
كانت أم أيهم في أحد أيام القيظ الشديد قد طبخت حبوبية ...بلبن , إحدى أكثر الأكلات مقتاً لدي , كما كان البراد – كعادته – خاوياً على عروشه فخرجتُ دون أن آكل شيئاً .
كان أيمن ومحمد يقفون – ككل يوم - عند الحنفية الملاصقة لمحل نصري في السوق منتظرين أحد الجيران المحملين بالأغراض ليقوموا بمساعدته علّه يحن عليهم بنصف ليرة .
- شو طابخة أمك اليوم ولاه " سألت أيمن "
- ولا شي .
- وأنت التاني " أسألُ محمداً "
- حبوبية بلبن
- يا ربي ع هالعلقة .
كانت عصافير بطننا نحن الثلاثة تصوي .
- وهلئ يا شباب .
- شو بيعرفني " يرد أحدهم " .
أخذنا نقتل الوقت بالحديث عن الطعام ليصرخ محمد فجأة :
- شو رأيكن نتغدى فراريج .
نظرت إلى أيمن وحال لساني يقول : شو عم يحكي هالمجنون :
- هوه نحن لاقيين قالب سوركه الأول لحتى نتغدى فراريج .
- والله يا زلمة , ليك , فيه ع الطريق العام جنب كازية القوجة بيت مهنا , عندون جنينة كبيرة ومليانة جيج .
- مدجنة يعني ؟
- لك شو مدجنة , هدول ناس أكابر وشبعانين , والجنينة من القفا مسكرا بمنخل نصه خربان .
- نسرق يعني .
- لك شو نسرق , هدول الناس عم قلك شبعانين , واللي ما بدنا ناكله رح تاكله الجقيل , بقا أحسن شي : عليهم .
كانت المسافة طويلة بيننا وبين بيت مهنا اللي ساكنين بآخر ما عمر الله .
وبين الأخد والعطا والتردد وصلنا إلى هناك قبيل العصر .
لم يكن جامع عز الدين القسام قد بني بعد , وبالتالي فقد تسللنا إلى حديقة المنزل الكبيرة المكتظة بالأشجار دون أن يشعر أحد .
كان القن ملاصقاً للمطبخ وصوت الراديو يأتي قوياً ومسموعاً , شعرنا بالخوف وأحسسنا بفداحة ما نقوم به , فأردنا العودة وإذا بدجاجة بلدية كبيرة لا تقوى على الحراك , ولا تبعد عن أيمن النحيل أكثر من مترين .
انقض عليها بقفزة يعجز عنها أعظم حارس مرمى , وإذا بها بين يديه .
خرجنا بهدوء – كما دخلنا – ونحن نقنع أنفسنا بصوابية ما فعلناه , فها هو الدجاج بالعشرات لا يلتفت اليه أحد , ولولا أخذنا هذه الدجاجة العجوز لماتت خلال يومين أو أكلها الجقل ( ابن آوى ) .
اتجهنا نحو النقعة , وعند المرج الشهير هناك جمعنا بعض الحطب , ثم ذبحنا الدجاجة بالمقلوب بواسطة طبة تنكة صدئة مرمية هناك .
كان الذي ذكّى الدجاجة ( ذبحها )هو محمد بعد أن أمسكناها له بطريقة فنية جعلتها لا تقوى على الحراك , ونحن نصيح به أن لا ينسى البسملة عليها كي يحل أكلها وإلا فهي حرام .
نتفنا الدجاجة ريشة ريشة دون ماء ساخن .. ظلت بقايا الزغب عليها , لكننا لم نبال كثيراً بهذا , ثم شققنا جوفها بالتنكة ونظفناها جيداً و ... أشعلنا الحطب ووضعناها على النار .
بدأت رائحة الشواء تزكم أنوفنا , لم ننتظر حتى تنضج كليةً فقد بلغ الجوع منا مأخذه , وهكذا صرنا نأكل الأجزاء المشوية جيداً ونقلبها ونعود لنأكل ما نضج حتى انتهت الدجاجة وراحت في خبر كان .
كان المغرب قد اقترب فعدنا أدراجنا إلى البلد ونحن نقسم أن لا نكرر الموضوع ونعود للسرقة مجدداً مهما حصل .
في اليوم التالي قادتنا خطانا المترددة إلى نفس المكان لتكرار التجربة .. أحضرنا زاغتين إضافة لبعض البيض .
كانت النقعة بعيدة فقررنا طهي حصيلة الصيد عند سور مؤسسة الأسمنت .
تغدينا يومها دجاجاً وبيضاً مشوياً ... وأقسمنا أنها خاتمة الانحراف .
لكن الواقع كان غير هذا .
صرنا نذهب كل يوم تقريباً , لم نعد نذبح الدجاج بالزجاج المكسور والتنك , بل أحضرنا سكيناً مفلولاً أكل الدهر عليه وشرب وبعض الثوم والزيت والملح وأخفيناهم جيداً بين الأعشاب عند حائط مؤسسة الشمنتو .
كنا في كل مرة لا ننسى البسملة .. وكذلك لا ننسى أن نقسم بعد الشبع بألا نكرر الموضوع , لكننا سرعان ما نخلف بعهدنا .
في المرة الأخيرة كانت زوجة عمار نجيب – التي رأتنا أكثر من مرة – قد أخبرت زوجها بالقصة , ويبدو أنه أو أحد أقارب زوجته قد قرروا وضع حد لغاراتنا المباركة تلك .
كانوا يسكنون في منزلٍ صغيرٍ مقابلٍ تقريباً لسور حديقة بيت مهنا الخلفي ( في الشارع الذي ينتهي بمدرسة مهنا ) , حيث لم تكن حينها عمارته القبيحة المطلة على البحر قد انتهت بعد .
صرخ علينا من بلكونه الصغير وهو يلوح بمسدسه ونحن نهم بالدخول فلذنا بالفرار .
لم نعد بعدها قط .
كنا نجهل من الذي لوح علينا بالمسدس , ثم علمنا أنه عمار نجيب ابن فاطمة مخلوف .. أبو سمير الذي قال لنا هذا أعقب بقوله أنه مشروع لص كبير كأخيه عاطف .
عندما علمنا بهذا لم نستطع كثيراً فهم لعبه دور حامي العدالة أمامنا , ألم يكن من الأولى به التعاطف معنا كزملاء في المهنة , أم أن الحسد والغيرة من وجود منافسين محتملين له ولأقربائه في دولة البعث الممانعة هو ما دفعه للعب دور باتمان حينها .
..
أخشى ما أخشاه أن يأتي علي جبر جديد بعد جيلين أو ثلاثة ليخاطب أحفادي وأحفاد أيمن ومحمد ببوستات فيسبوكية مطنطنة تبدأ بعبارة : يا أحفاد سارقي الجيجات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق