05‏/01‏/2013

جبلة .. التاريخ والجذور


..
بعد أن وَصَلنا ما وصلنا من الوثائق النادرة والمراجع الأخرى المشهورة من الأخوة الذين تفاعلوا مع الموضوع مشكورين , نقول بكل ثقة , وإن شاء الله هو الصواب :
جَبْلَةُ أو جَبَلَةُ كما ضبطها ياقوت الحموي وابن عساكر والبلاذري وابن بطوطة هى قلعة مشهورة بساحل الشام من أعمال حلب , قرب اللاذقية ( تمييزاً لها عن جبلة اليمن وجبلة الحجاز , وجبلة نجد التي وقعت بها حادثة شعب جبلة " أحد أيام العرب المشهورة بين عبس وذبيان وفزارة " ) .
اسمها عبر التاريخ : ( جب – الا 
) وتعني الرب المقدس , إحدى أقدم المدن الفينيقية على المتوسط , ومن الواضح من التسمية أنها أقدم من مدينة جبيل ( جب – ايل ) التي نشطت بعد أفول مملكة سيانو وضعف دور مينائها التاريخي ( جب – الا ) وهجرة البحريين الجبلاويين المحترفين بإتجاه الجنوب ( لبنان ) والشمال الغربي ( إيطاليا وجنوب فرنسا واسبانيا ) والجنوب الغربي ( ليبيا وتونس والمغرب ) قبل حوالي 3200 عام .
إن مصدر التسمية ( إل ) التي تعني الرب في جميع اللغات الميتة التي انتشرت في المنطقة يعطي الإيحاء بسبقها للمدن الأخرى التي أدمنت عبادة البعل .. فإل الأصلية تحولت بعد الخمسمائة عام الأولى من نشوء اللغات المحكية في المنطقة إلى إيل .. وحدها ( جب – الا ) حافظت على تسميتها الأصلية .
ألف المد تحولت مع الزمن إلى هاء السكت بعد تطور المنظومة الصوتية للأحرف الصافرة والمعلولة .
ومنه جاء في غريب الإعراب وشاذ اللغة أن لفظ الجلالة ( الله ) يعرب كما يلي : ال ( رب العزة والألف للمد والاستغاثة والمناجاة والهاء للسكت ) .
وهكذا أصبحت ( جب – الا ) بكل بساطه : جبله .
عبدت جبله التاريخية – كغيرها من المدن الأخرى في الشرق الأدنى - قبل أن يمن الله عليها بالمسيحية الأولى ثم الإسلام الإله بعل ( زيوس أو زفس في الأساطير اليونانية والرومانية ) الذي تحدث عنه القرآن الكريم بعد انقراض هذه العبادة بأكثر من ألف عام : ( أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين ) .
لقد أشكلت هذه الآية – المعجزة على جميع المفسرين , لأن بعلاً المنقرض هذا لم يماط عنه اللثام كأحد أرباب المنطقة إلا بعد الاكتشافات الأثرية في القرنين التاسع عشر والعشرين , لذا تجد أغلب أصحاب التفاسير الذين لم يكن لهم أن يسمعوا ببعل قد قالوا أن البعل هو الذكر من الزوجين , قلة ذهبت إلى أن بعلاً هذا صنم من ذهب يعبد في بعلبك بشكل يوحي وكأن سيدنا إلياس صلوات الله عليه كان هناك فيما مضى , فسروها من السياق وحده دون دليل تاريخي يمكن الركون إليه في عصرهم , وكانوا محقين إلى حد بعيد .
كان الكاهن كيكي خادم البعل الأمين يقيم في صومعته التي تبعد عن جبلة حوالي 60 كم في إحدى قرى محافظة طرطوس وما تزال آثار معبد كيكي موجودة حتى بعد مضي ثلاثة الآف عام على القصة , كان الجبلاويون وغيرهم من أهل الساحل يقصدونه في النذور والمعضلات والشدائد .. ومن غير المستبعد أن كيكي هذا– كما يبدو – يمتلك الجواب لكل غامض ومبهم ومجهول .
حفر كيكي سيرته في الذاكرة الجبلاوية بعمق , كما حفرها في الذاكرة الجماعية لجميع أهل الساحل , وما يزال أهالي جبلة يذكرونه بالطيب حتى اليوم .
لقد نسى الجبلاويون السيرة المهنية لكيكي , لكنهم ما زالوا يتذكرونه و يقولون عن المعضلات التي لا يمكن حلها : بدها النبي كيكي ليحلها , أو " حتى النبي كيكي ما فينو يحلها ".
لو قلت هذا التشبيه في أي مكان في العالم خارج الشريط الساحلي الممتد بين اللاذقية وطرطوس لما فهم أحد ما تقول , لكن أياً من أهل المنطقة لن يسألك عن مقصودك بل سيهز برأسه موافقاً على أن المعضلة لا حل لها طالما أن كيكي بجلالة قدره يعجز عنها .
هذا هو الموروث الثقافي والذاكرة الجماعية بأوضح أشكالها .
كما أن كلمة جب التي تعني المكان المقدس أو المرتفع في جميع اللغات الميتة في الشرق الأدنى , قد قلبها العقل الشعبي المبدع المتمرد على أوضاعه فحولها إلى المكان الغائر ليصبح مرادفاً لكلمة بئر , وذلك كصرخة ألم في وجه الحكام المستبدين والطغمة الأرستقراطية من الكهان والأثرياء الذين ما انفكوا يمتصون دماء الشعب عبر التاريخ .
ما تزال الأسماء المقدسة تنتشر في جبله ( جب – الا ) , فجب جويخة والجب – انه والجبيبات وجب الطاحون الذي ظلوا يبحثون فيه عن الذهب عبر التاريخ حتى مدة ليست ببعيدة , ما تزال موجودة حتى اليوم , ولعلها ستبقى ما بقيت جبلة ما لم يدكها الأسد الابن عن عروشها .
أما هاء الملكية الفينيقية التي كانت تأتي ملحوقة بالنون , فقد حافظ عليها أهالي الأحياء القديمة الذين ظلوا أمناء لها ولغيرها من القواعد والمسميات , يتوارثونها جيلاً بعد جيل حتى بعد غلبة اللسان العربي إبان الفتح الإسلامي للمدينة عام 17 هجرية .
وما يزال أهالي الدريبة والمريج والصليبة يقولون : أخهنه وأبهنه وغيرها عند الحديث عن ( أبيه وأخيه .. الخ ) .
هذه هى هاء الملكية الفينيقية التي تأتي وفق اللاحقة اللغوية ( نه ) طبقاً لفونيمات تلك اللغة .
و ... للحديث بقية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق