05‏/01‏/2013

أيهم وسكرات الموت



..
في أوائل الثمانينيات كانت سينما الفردوس تعيش أيامها الأخيرة .. لقد توقفوا منذ زمن عن الأفلام الجديدة .. فقط فيلم " قبضة الثعبان " لجاكي شان يُعرض ثلاث مرات يومياً ثم أضافوا وجبة رابعة عند العاشرة صباحاً وخصصوها لطلاب المدارس الهاربين .
كانت طقوس السينما كما عاشها أهلنا قد انقرضت كلياً , وحدها حارتنا ظلت محافظة على هذا الإرث الجليل , فكنا نجتمع يوم الجمعة من كل أسبوع , ونذهب كلنا " صغاراً وفتيةً " لحضور عرض الساعة 12.30 مهما كانت الموانع والظروف .
لا دا
عي للقول أننا حفظنا الفيلم غيباً .. كان كل منا مؤهل للحصول بتفوق على شهادة دكتوراه في الفيلم .. بل إن بعض الجمل والعبارات الصينية قد تسلل إلى ذاكرتنا الجماعية , وما أزال - وغيري - حتى الآن نذكر بعضها .
كان إبراهيم أكبرنا , وقائدنا أيضاً .. ولا أدري كيف حصل هذا في عصر كان القائد الوحيد المسموح به اسمه حافظ الأسد .
إبراهيم الذي يتمتع بالمواهب البراغماتية التي يتمتع بها الأسد الأب أقدر من الجميع على معرفة من أين تؤكل الكتف , كما يتمتع بالصرامة نفسها عندما يجدّ الجَدّ ويطرأ طارئ ما فنحاول شق عصا الطاعة .
خلافٌ بسيطٌ واحدٌ كان بين الاثنين .. لم يكن إبراهيم شخصاً مؤذياً - بعكس الراحل الكبير- . 
كانت براغماتيته من ذلك النوع النفعي بامتياز دون أن يتأذى منها أحد.
لقد استطاع على سبيل المثال إقناع خيرو القدّاح – من وراء ظهورنا - بعمل حسم على تذاكر دخولنا السينما والبالغة حينها ليرة سورية واحدة عن كل رأس , فأصبح يدفع ليرتين عن كل ثلاث رؤوس ليضب الثالثة بجيبه , لم نكن ندري في وقتها لماذا كان يصر - على الدوام - على استلام الموازنة العامة للشلة .
كانت طقوس الذهاب إلى السينما والعودة منها واحدة .. نفس التوقيت ونفس الطريق ونفس نوعية السندويش والحديث .. والأهم من هذا كله : نفس الفيلم .
كنا نجتمع أمام بيت إبراهيم عند الحادية عشر والنصف من كل جمعة , وعندما يكتمل النصاب يعطي كل منا ليرته له لننطلق مخترقين السوق باتجاه القلعة ثم البلدية وصولاً إلى الهدف .
أما في طريق العودة فكنا نسلك طريق الحديقة متجهين إلى المقبرة لقراءة الفاتحة على قبر والدة إبراهيم المتوفاة قبل أن يولد معظمنا .
في إحدى المرات لم أقم بقراءة الفاتحة بالخشوع الكافي كما يبدو مما أثار حفيظة إبراهيم الذي حملني ومددني فوق أحد القبور الرخامية الحديثة البناء .. أي أن الميت كان طرياً , ثم أتبعها بالقول : كل من ينام فوق قبر فإنه سيموت بعد ثلاثة أيام .
-
شو هالعلقة يا ربي , لم يبق لي في هذه الحياة غير ثلاثة أيام " أخذت أحدث نفسي طيلة طريق العودة " .. كانت الكآبة تلفني والعرق البارد يغطيني .. لا أدري كيف حملتني قدماي إلى البيت .
-
أيهم طلاع خلّص أكل ورجاع نلعب فطبول " صاح أيمن " .
عن أي فطبول وأي أكل يتحدث وأنا الذي سأموت بعد ثلاثة أيام .. لم أردّ , وجررت رجليِّ بتثاقل متجهاً إلى البيت .
كانت جدتي قد طبخت لنا ورق دوالي , وهى الأكلة التي أحبها .. كانوا قد سبقوني وأكلوا قبلي .
وضعت لي جدتي صحنا معتبراً شهياُ .. رمقته بعيني , كم بدا بغيضاً وثقيلاً حينها هذا الصحن , .. كيف لي أن أكل وأنا الذي سيموت بعد ثلاثة أيام .
أخذت قطعة من الخبز وقطعت نصف محشية ووضعتها في فمي .. علكتها مرة أو مرتين وبصقتها .. كم هي كريهة هذه اللقمة , وكم هو بغيض " محشي ورق الدوالي " فنهضت دون أن آكل شيئاً .
كنت متردداً في سؤال جدتي عن الموت والأيام الثلاثة الباقية لي في هذه الحياة .. ذهبت إلى فراشي واستلقيت , شعرت بملك الموت يأتيني منذ اللحظة التي غطيت بها نفسي ... لماذا أتى الآن ؟؟ ألم يقل إبراهيم أنه يأتي بعد ثلاثة أيام .
نهضت متثاقلاً وأنا أكثر خوفاً .. يلعن أبو الجبانة ع أبو السينما , شعرت برغبة ملحة بالصلاة سرعان ما غطاها الكسل والخمول وفقدان الحيل فاكتفيت بترديد الصمدية عدة مرات .
لم أستطع التحمل أكثر فبحت لجدتي بما حصل , وبدأت شآبيب اللعنات على إبراهيم تنهال من فمها كالمطر , ثم أحضرت طاسة الرعبة من فاترينة غرفة الضيوف وقامت بالطقوس اللازمة لتسقيني منها ثلاث مرات .. امتلئ بطني الفارغ بالماء وأصبح كالكرش المتدلي لمطحول لكن خوفي لم يزل كليةً حتى بعد انقضاء الأيام الثلاثة .
كبرت وما أزال أتذكر إبراهيم .. في الفترة الأولى كنت أقول : ماذا لو كان يقصد موت النائم على قبر بعد ثلاثة أسابيع .. وعندما مرت الأسابيع الثلاثة ولم يحصل شيء قلت لنفسي : لعلها بعد ثلاثة أشهر ... ثم ثلاث سنين .
والآن , وأنا أكتب هذه السطور أسأل نفسي : ماذا لو كان يقصد :: بعد ثلاثة عقود ؟؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق