من خبايا ذاكرة المدينة القديمة
- ..
في أحد أيام ربيع 1935 فجعت جبله بأحد أكثر شبابها الواعدين نشاطاً وكاريزما محببة عندما غيّب الموت ذلك الشاب الوسيم المثقف المتزن محمود نعنوع .
... كان محمود أحد المسلمين الغيورين بدون تزمت , ممن يرون أن محاربة الاستعمار الفرنسي لا تكون إلا عبر خلق وعي جماعي وثقافة مؤصلّة متاحة للجميع بمن فيهم أولئك الكارهين للكتاتيب والمدارس
الموروثة من العصملّي .
تفتق عقله الموهوب على استشراف التجربة الكشفية التي كانت في أوجها حينها .
كانت جمعيتا الكشاف المسلم والمسيحي هما السمة المميزة لمثقفي لبنان في تلك الفترة , ويعلم الله وحده كيف استطاع ابن جبلة - الذي لم يبلغ ربيعه العشرين - إقناع المرحوم محي الدين النصولي رئيس جمعية الكشاف المسلم في لبنان بنقل هذه التجربة إلى سورية عبر جبلة تحديداً , وكيف استطاع كذلك إقناع الوجيه راغب أفندي علي أديب بتبني الخطوة والإنفاق عليها ..
.
وهكذا نشأت في جبلة تجربة من أكثر التجارب الجماعية خصوبة وجمالاً .
خصص الوجيه الغني نادياً رحباً كمقر للجمعية يقع في الحارة المقابلة لحارة المصبنة (( تحول المقر فيما بعد إلى منزل تسكنه حالياً أرملة وأولاد المرحوم " أبو " لواء المورللي )) .
كان الجراميز ( الكشافة الصغار ) يملؤن الحارة الضيقة نشاطاً وحيوية ... أما الكبار ( الحديديون الأصليون ) فكانوا يقطعون الوقت بكل ما هو مفيد من تدريبات على الدفاع المدني وأمسيات شعرية وقصصية وخطابة .
استشرفت عائلة غلاونجي الغنية والمنافسة لعائلة علي أديب التجربة وأسست كشافة ( الحديدي كشة ) أي الذين ينتسبون دون أن يدفعوا رسوم تسجيل , وذلك كخطوة لجذب المريدين , كانت السجالات الفكرية والبدنية بين الطرفين حالة شبه دائمة والغلبة على الدوام للحديدي الأصلي ...
خطف الموت المبكر رائد هذه الحركة التي لم تلبث أن اضمحلت بعده حتى تلاشت , لكنها حفرت أثراً واضحاً في الذاكرة الجماعية للمدينة .
شيع الفقيد إلى مثواه الأخير بجنازة كشفية مهيبة ..
لقد بقيت مراسم تشييع الشاب محمود عالقة في ذاكرة الأحياء ممن عاصروها , والذين يقسمون أنهم لم يشهدوا جنازة مثلها قط طيلة حياتهم .
========
بقى أن نعرف أن الراحل محمود هو شقيق المرحوم مصطفى ( أبو سمير ) والحاج سعد الله ( أبو عبد السلام ) والمرحوم خالد ( أبو لؤي ) نعنوع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق