05‏/01‏/2013

أبناء الأبطال

..
لا أحد يدري متى حصلت هذه القصة بالضبط .. ربما بعد عام وربما عشرة .. المهم أنها حصلت بعد فترة قليلة من سقوط النظام .

كان الجو خريفياً مشمساً , وعمار يجلس مسترخياً يرمق شمس الغروب وهى تغيب في البحر , متلذذاً بنفس المعسّل الذي أحضره له النادل محمود لحظة وصوله .. بينما جلس بجانبه فادي وسامر يتسلون بلعب الشيش بيش .كان الرفاق الثلاثة يجتمعون يومياً – منذ أول الصيف - بهذا الوقت في مقهى مرعب أحد أشهر معالم كورنيش جبلة .. كانت أعمارهم متقاربة , ثقافتهم وبيئتهم متقاربة أيضاً , فهم الثلاثة من أبناء أبطال الثورة المباركة التي دكت عرش الأسد وأنهت إلى الأبد هيمنة تلك العائلة
كانوا يفخرون بآبائهم الذين لم ينس الوطن ما قدموه له في تلك الأيام الحالكة فجعلهم وجوهاً دائمين في جميع الوزارات التي تشكلت بعد الثورة .

كان والد عمار قد أصبح معاوناً لوزير الاقتصاد بينما استلم والد فادي حقيبة المالية , لكن الأكثر تضحية وفداء كان والد سامر الذي كافئه الوطن مؤخراً فرفعه لرتبة الفريق مستلماً رئاسة أركان الجيش العربي السوري المعاد تشكيله بعد إلغاء رتبة العماد الهجينة .
  
وكالعادة انتهت برتية الشيش بيش بفوز سامر الذي لم يكن يشق له غبار في هذا المضمار ... فنادوا على النادل محمود لدعمهم بثلاثة أكواب من الزهورات وبدؤوا الحديث عن بطولات آبائهم ككل يوم .. لم يكونوا يملون من هذا الحديث .. كان الثلاثة يعرفون أدق تفاصيل بطولات الفرسان الثلاثة , بل كانوا أذا نسي أحدهم تفصيلاً فسرعان ما يذكّره الباقون به .
..............
كان الحاج حسين معاون وزير الاقتصاد ووالد عمار قد بدأ حياته بطرطيرة لبيع الغاز على أنغام رجعت أيام الشتوية , وعندما بدأت الثورة عرف بغريزته أنَّ الوقت كارثي والحلال ع الشاطر .

عندها فقط بدأ رحلته الشاقة في خدمة الوطن والشعب .. أخذ يفرغ نصف جرة الغاز المليئة بجرة أخرى فارغة ويبيعهما كجرتين .. ثم أصبحت الجرة ثلاث جرار ثم أربعة وصولاً إلى سيارة غاز كاملة , فلماذا الإسراف المكروه شرعاً ...
وشيئاً فشيئاً تطورت الحالة معه فقرر الامتناع عن تزويد الجرار الفارغة بسانتي متر مكعب واحد من الغاز طالما أن الغاز القادم من مستودعات الدولة غير قابل للاشتعال أصلاً .. اشترى ( كومبراسور هوا ) من محل هاشم محمود وبدأ يحقن الجرار بالهواء الصافي المضغوط , لم يتوقف الكومبراسور لحظة عن العمل  ولم يكتشف هو كلفة تشغيله الباهظة إلا بعد وصول أول فاتورة كهرباء بعد الكومبراسور وقد تجاوزت الثلاثة الآف ليرة أي ما يعادل ثمن جرة واحدة بالتمام والكمال .. عندها أصابته الجمدة وبدأ العرق البارد ينهمر منه كالمطر .. تردد قليلاً ثم توكل على الله وقرر عدم حقن الجرار بأي شيء .

كانت نسوة الحي يأتينه بجرار الغاز الفارغة , فيستلمها منهن ويسلمهن جراراً أخرى فارغة أكثر ويحصل على ثلاثة الآف ليرة عند كل تبديل للفراغ بالفراغ ..
اشتكت الناس في البداية ثم سكتت على مضض أمام حجته المفحمة القوية : هيك عم استلم من الدولة وهيك عم سلّم .. اللي عجبه يشتري , واللي ما عجبه يدبر غاز من محل تاني ... الله يمحق هالدولة اللي الناس عم تحمّلني خطاياها .. يسقط النظام ,.. الله محيي الجيش الحر / تكبير .. فتكبر النسوة وراءه ويدحرجن الجرار الفارغة المستبدلة وقد دفعت كل منهن للحاج حسين ثلاثة الآف ليرة وينطلقن لحال سبيلهن .

.. وهكذا توالت الأيام حتى أصبح المورّد شبه الوحيد للفراغ بالبلد , كان يدعو ربه ليل نهار أن لا تنتهي هذه الثورة المباركة فينتهي معها بيع الفراغ بالجملة والمفرق .. كم صلى ودعا الله ليحفظ بشاراً وعبد الباسط سيدا وغليون من كل سوء ... بل إنه كان لا ينسى الخامنئي وآردوغان من بركات دعائه الصادق .

لكن بشاراً سقط , وسقطت معه تجارة بيع الفراغ المربحة .. ولكن لا .. ألم يؤمّن جرار الغاز للمواطنين على الدوام حتى في أحلك الظروف ... ألم يغامر بحياته وهو يهتف للجيش الحر أمام النسوة المتجمهرات للاحتجاج على نوعية الفراغ الذي يقدمه لهنَّ عند كل استبدال ..
ألم يتبرع مرة لأيتام الشهداء بخمسة وسبعين ليرة عندما أحرجه الشيخ بشار والشيخ أيمن والشيخ زهير وكل مشايخ جبلة واللاذقية وبانياس عقب صلاة الجمعة , وهو الذي يكتف البرغوت ...

لقد دفع صاغراً وهو يعاهد ربه صادقاً أن لا يحضر جمعة بعدها أبداً , وقد برَّ بوعده .

لم ينس الوطن تضحياته وتبرعاته السخية , وكذلك هتافاته المدوية بإسقاط النظام أمام أم وليد وأم سمير وباقي نسوة الحارة وها هو يعينه معاوناً لوزير الاقتصاد في أول وزارة بعد سقوط النظام .. 

لقد لفتت مواهبه في بيع الفراغ الأنظار إلى مقدرته الفذة تلك .. والوطن أحوج ما يكون لموهبةٍ كهذه في مرحلة إعادة الأعمار .. 
ثم .... توالت التكليفات ليصبح وجهاً أبدياً عند كل تشكيلة حكومية ............
  
سيرة حياة أبي فادي لا تختلف كثيراً , فقد كان عصامياً كالحاج حسين وربما أكثر , .. بدأ حياته ببيع المازوت على الطنبر , وعندما أتت الثورة المباركة بدأ يخلط المازوت بالماء مما أهّله لاستبدال الطنبر بطرطيرة خلال زمن قياسي , كانت  نفسها طرطيرة الحاج حسين التي استغنى عنها ذاك عندما تضخمت ثروته , ومن هنا بدأت العلاقة الحميمة بين البطلين ..
تلك العلاقة التي انتقلت الى الولدين وربما ستنتقل إلى أبناء الأبناء من بعدهم لعشرة أجيال قادمة .

وكما تطورت الأمور مع الحاج حسين فقد تطورت مع أبي فادي الذي بدأ يبيع الماء الصافي المنكّه برائحة المازوت ..
كانت الناس قد أحست بشيء ما مريب في الأمر .. فمازوت أبي فادي لا يشتعل , وعندما احتجوا أجابهم بكل بساطة : ليش من ايمتين المازوت بهالبلد كان يشعل ..
طأطئ الناس رؤوسهم موافقين أمام هذا الحجة المفحمة وبدؤوا واحداً تلو الآخر يقررون الطبخ على الحطب , أما مازوت أبي فادي فقد لعب دوراً مهماً في إطفاء بقايا النار المتقدة بعد استواء الطبخة .

ارتكب البطل خطأ قاتلاً في إحدى المرات , حين قام ببيع زوجة المخبر مصطفى عزام ( الجد ) نصف بيدون من ماءات المازوت , وعندما أعلمت المخلوقة زوجها بالقصة أخذ دورية أمن مقتحماً الحي والمنزل ...
بقى أبو فادي يومين في ضيافة الجوية ... لم تكن تهمته من ذلك النوع الذي يزعج الدولة كثيراً , ولولا دالّة " الجد " على رئيس المفرزة لسكتوا عنه وربما منحوه وساماً.

 سرعان ما أطلقوا سراحه بعد دولابين مرتبين .. لكن هذا الاعتقال كان نعمة لأبي فادي , حيث خلق له سجلاً نضالياً حافلاً .

بعد النصر لم ينسه الوطن أيضاً وعينه وزيراً في تكليفين متتالين عوضاً عن اليومين الذين قضاهما في ضيافة " الجد " .
..
كان الجد ( مصطفى عزام ) قد قضى نحبه منذ زمن بعيد سحلاً بأقدام أهالي جبلة المقهورين , لكنه أي – أبو فادي – لم ينس ولو لمرةٍ قراءة الفاتحة عقب كل صلاة جمعة عن روحة تقديراً لدوره الفذ في إيصاله إلى ما وصل إليه .
..........

سيرة حياة العميد إبراهيم ( والد سامر ) تختلف قليلاً , فهو ضابط في إدارة الدفاع الجوي يقتسم مع ستة من زملائه سيارة جيب واظ بالتناوب .. اشتكى من الحال فاستضافه الفرع 291 ( أمن القوات ) لمدة شهرين كان الدبان الأزرق خلالها يجهل مكانه .. وعندما خرج كانت الثورة في بدايتها ..

كان رقيب حقير من القرداحة يتسلى بدولبته في أوقات الفراغ مما جعل لديه هامشاً واسعاً من الحقد على الأسد وقرداحته وحرف القاف كله .. وهكذا قرر الفرار إلى تركيا عند بداية الأحداث .

تواصل بطريقة ما مع بعض الناشطين الذين أمنوا هروبه وزوجته وابنه الوحيد سامر إلى تركيا حيث أقاموا في سكن الضباط بمخيم يايلا داغ , ومن هناك بدأ مشواره الصعب في خدمة الوطن .

في البداية عن طريق أموال المعونات ثم عن طريق تجارة السلاح .
كانت معونات المحسنين تتدفق كالمطر وكان بدوره يشتري ببعض تلك الأموال السائلة أكواماً لا تنتهي من المواد الغذائية منتهية الصلاحية والتمور المسوسة والأرز المسود والحبوب الصالحة للعلف الحيواني ويضعها في مستودعات ضخمة استأجرها في مدينة الإسكندرونه لهذا الغرض .

بدأ الهمس عن سرقة أموال المعونات و... جاءت لجنة قضمانية رمضانية غليونية للتفتيش والتحقق من الأمر ...

وبعد سهرة مطنطنة في الفندق مع عشاء من المطبخ التركي الشهي ونوم مريح أسقط وعثاء السفر عن الجميع بدأ التدقيق :
- أين المال ؟؟
- أي مال .. هذه مساعدات ومعونات عينية وليست مالاً سائلاً .
- حسناً .. أين هذه المعونات العينية .
- في المستودعات
- أيّة مستودعات ؟؟
- مستودعات إغاثة اللاجئين ودعم الجيش الحر .
..
وبدأت رحلة استغرقت حوالي الساعة بين أنطاكية وإسكندرونه .. شاهدوا من بعيد مستودعات ضخمة .. " أشار عليهم " : هذه هي المستودعات .

فتح الحارس الباب مؤدياً التحية العسكرية ... كانت الهناجر الضخمة على مد البصر ... هزت اللجنة الرأس بإعجاب .

كانت المستودعات مليئة بالخيرات .. عيب صغير وحيد هو أن الرائحة الكريهة تنبعث من المكان كله .

دخلوا المستودع الأول فشاهدوا قواصر التمر تملئ المكان , فتحوا أحداها فشاهدوا تمراً فَقَدَ شكله منذ زمن بعيد ... " ما هذا ؟؟ " سألت بسمة باستغراب  .
 - تمر خلاص , وأصلي " يرد العميد بثقة " .
-  تمر شو ؟! " يتدخل أحمد رمضان "
-  إذا كان هاد تمر بيكون رضوان زيادة هيفاء وهبي " يتابع غليون " .
يقهقه الجميع  .
-  يا جماعة الوضع وضع أزمة والناس تموت بالمخيمات من الجوع وأنتم تريدون أن تتكبروا على نعمة ربكم .
وافقته بسمة وسرعان ما أيدها الباقون .

زاروا باقي المستودعات التي لم تكن أحسن حالاً .. الأرز المسوس والمعلبات في العبوات الصدئة المنتفخة أكثر من أن تحصى .. 
كادت الروائح تميتهم فتوقفوا عن التجوال مكتفين بمحاضر جرد المستودعات .. ثم قرروا العودة إلى الفندق .

كان طاقم عمل متكامل ينتظر اللجنة الموقرة في الفندق .. فالمجلس الوطني الكريم لا يتهاون بتاتاً في موضوع الفساد .. وهكذا بدؤوا التمحيص منذ استلام المحاضر , وخلال ساعتين تبين أن الخيرات الموجودة في مستودعات العميد تزيد قيمتها " مرة ونصف " عن الأموال المشكوك باختلاسها .

كان التقييم والتسعير يتمان على أساس السعر الرائج لبضاعة حديثة الإنتاج .. لم يرغب أحد إلى  الانتباه أنّ البضائع الموجودة في تلك المستودعات منتهية الصلاحية وملمومة مجاناً من المزابل .

سألوا العميد بإعجاب عن سبب الزيادة في مستودعاته :
-  بعض المحسنين من أهل الخير رفضوا الكشف عن هباتهم , وهم كثر .
-  كم هي عظيمة هذه الأمة .. إذا خليت خربت " يعقب أحمد رمضان  ." 

وافق الجميع على التبرير وشربوا الأنخاب الشرعية " ويسكي بدون كحول " مراعاة لأحمد رمضان وغادروا بنفس الحفاوة التي جاؤوا بها مشرعنين لسيادة العميد سرقة 70 مليون دولار مرة واحدة .

لم يكتف المجلس بهذا , بل أرسل كتاب شكر لأمانة العميد .. 

تكررت خدمات العميد للوطن وتسرطنت ثروته أكثر و.... تكررت كتب الشكر والإشادة والتنويه بالفضل  .

لم تذهب تلك الكتب أدراج الرياح , فهي التي فتحت الباب أمام العميد البطل على مصراعيه للترقي فور سقوط النظام .
----------
.
كان النادل محمود يشعر بكل عقد النقص وهو يحوم على الدوام حول أبناء الأبطال ليسمع نتفاً من سيرة بطولات آبائهم ... حتى أنه حفظ معظمها أحسن من أي واحد منهم  .

كان والد محمود أحد النكرات الذين جاؤوا إلى الحياة بصمت وغادروها أيضاً بصمت ..
شارك عند بداية الحراك بالمظاهرات المطالبة بالحرية  وأُلقى القبض عليه فاستضافوه شهرين في فرع الأمن العسكري باللاذقية قبل أن يحيلوه إلى القضاء المختص الذي صادر هويته الشخصية وحكمه بثلاث سنوات بتهمة توهين عزيمة الأمة , ليخرج بعد فترة إثر عفو أسدي مرتبط بالرحلات المكوكية لكوفي عنان , ليعاود الكرّة ويعاودونها هم ويعيدون سجنه .

كان زبوناً دائماً لجميع الأفرع .. جرب كل أنواع البلاوي الزرقاء والصفراء من فروج ودولاب وبساط ريح وغيرها .

لم ينس محمود أبداً كيف أتى إليه في إحدى ليالي الشتاء الباردة ليعانقه بدفء لم يعرفه بعده قط  ويخرج دون أن يراه مرة أخرى ... 
كان ذراعاه القويان ما يزالان يعانقانه بنفس الدفء والحميمية كلما تذكر ذلك الليل البارد الحزين .

لم يكن محمود ليدري أن أباه الذي سافر إلى تلبيسة ليشارك بالحراك فيها قد أردته رصاصة غادرة من قنّاص , فسقط كغيره ممن سقطوا ..

لم يكن في جيوبه ما ينبي عنه , وهكذا بقى جثمانه الذي لم يتعرف إليه أحد أسير براد الموتى لأكثر من أسبوع .
..
أخرجه أهل البلدة مع " الجثامين الأخرى التي عانقت أحبابها بنفس الدفء وخرجت بنفس الصمت " ودفنوهم في مقبرة البلدة بقبر جماعي يحمل رقماً نسيه البعض وتناساه البعض الآخر مع الزمن .
..
.
وضع محمود أكواب الزهورات على الطاولة وهو ينظر بحسد إلى أبناء الأبطال .
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق