05‏/01‏/2013

أيهم : جنديٌّ مغوار



..
نهائي كأس العام 98 بين فرنسا والبرازيل كان حابكاً .. الفطي التاني ( الشوط الثاني ) بدأ قبل قليل .
زين الدين زيدان يفلح دفاع البرازيل معلناً وفاة بيليه ورنالدو وزيكو وميكو وما بعرف مين بالسكتة القلبية .. كان البرازيليون يومها أشبه بفريق حارتنا الذي أسسناه قبل عشر سنوات , أما زيدان الموهوب فكان كمن تقمصت فيه روح عشرين بيليه وخمسين مارادونا .
كنا نتابع المباراة – كحالنا في جميع مباريات تلك البطولة -  بتلفزيون 14 بوصة منقرض منذ العصر العباسي في شقة على الهيكل تقع في منطقة الفيض وتعود لوالد أحد الأصحاب .
كانت دواة القهوة مرمية في الركن وبجانبها علبتا السكر والشاي وملعقة صدئة , إضافة لبعض الكاسات المتسخة , ويتربع على بابور الكاز الذي لم ينطفئ قط طيلة المباريات إبريق شاي مشحور وهو يصفر ويجعر منذ مدة بإنتظار من يحن عليه ويتنومس فيضع به قبضة شاي قبل إنزاله عن النار .
كنت الأقل شغفاً بمتابعة وقائع الماتش , فقد كانت بين يدي رواية ساخنة لألبرتو مورافيا تعادل عندي زيدان وأبوه وأبناء عمومته مجتمعين , لكنني كنت أمتع نظري به رغماً عن طوله القصير الذي لا يتجاوز الثلاثة سنتيمرات في ذلك التلفزيون التاريخي ( أبو الأربطعش بوصة ) بين الصفحة والصفحة , أو حين صراخ الشباب من فرط حماسهم لدى ترقيصة جميلة أو باس ملعوب .
بدأ الشباب بالسباب فجأة نتيجة عطل فني من المصدر .. توقف البث لثواني متداخلاً مع برنامج كان القائد الرمز يصيح فيه عن طيور العاشق والمعشوق والوطن العزيز والغالي .
أكل الرفيق المناضل اللازم من الجميع خلال الثانتين أو الثلاثة التي آنسنا فيها بطلته البهية , ثم حل محله زيدان من جديد .
كنت قد أنهيت خدمة العلم منذ أقل من شهر , خدمت خلالها الوطن وهذا القائد الرمز لثلاث سنوات إلاّ شهرين في كتيبة ملحقة بلواء مشاة ميكانيكية مستقل .
كانت صور سيد الوطن الكالحة التي تطالعني في كل مكان بالسرية أو قيادة الكتيبة أو في مركز قيادة الفوج تشعرني بالفخر لأن سنين حياتي القصيرة لم تضع عبثاً .. صحيح أننا لم نطلق طلقة باتجاه العدو المفترض قط , لكن المجد كل المجد لمن خدم في هذا الجيش العقائدي , تحت قيادة هذا القائد العقائدي في هذا العصر العقائدي .
لقد كنا بكل بساطة جزءاً من التاريخ , أو هذا ما قالوه لنا على أي حال .
كانت سحنة الرفيق القائد الخشبية في صوره التي توزعها مديرية التوجيه المعنوي في الجيش تخيف غربان الظلام في تل أبيب وواشنطن لكنها على ما يبدو تخيف العميد الركن  وباقي جوقة القيادة الميدانية للوائنا المستقل أكثر .
ألحقوا مرة بنا سرية صواريخ سام 7 المحمولة على الكتف للدفاع عن سماء لواءنا المستقل الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من سماء الوطن .
وصواريخ سام 7 المضادة للطائرات على ارتفاع منخفض والحوامات - لمن لا يعرفها - هى صواريخ موجهة حرارياً وتطلق من قاذف محمول على الكتف أشبه بآر بي جي مقطوش أو مدفع بازوكا وتعمل على صوت البيب , كان صفير متقطع ينبعث من سماعة ملحقة بجهاز التوجيه , وعندما تصبح الطائرة سيئة الحظ ضمن مجاله المجدي يتسارع صوت الصفير صارخاً بالجندي : اطلقني بقا .
وعملاً بمبدأ : الرجل المناسب في المكان المناسب لم يبقَ أطرش في اللواء والجيش العربي السوري كله الا وتم إلحاقه بالسرية .
عندما حدثت محمد بهذا في إحدى الإجازات وافقني على الفور .. كان محمد الذي أوقف دراسته الجامعية مثلي والتحق ليسقط فرضه الإجباري فيخدم الوطن كرقيب مغوار في الجيش العربي السوري , كما فعلت أنا , قد التحق بكتيبة القناصة التابعة للحرس الجمهوري .
ربما كان لعينه اليسرى التي تشكو من ضعف مهول في الرؤية دوراً بهذا الفرز .. كانت معظم كتيبة القناصة تشكو من عيوب في إحدى العينين أو بكليهما معاً .
كان هذا  الحل العبقري قد ابتكرته العقول العبقرية في قيادتنا العبقرية , فالعين التي يحتاج القناص لاغماضها أثناء التهديف للتركيز على منظار التسديد بالعين الأخرى , مغمضة بشكل رباني .
كان مفهوم الخدمات الثابتة قد انقرض منذ زمن بعيد , وهكذا كنت ترى في جيشنا الباسل كمّاً وافراً من المكحكحين , أما أولاد الحظوة والدعم من الأصحاء بدنياً , والصالحين ببساطة للمشاركة في الأولمبياد وتحطيم الأرقام القياسية  فلم يكن الجيش يحتاجهم كما يبدو .
لعب زيدان لعبة دبل كيك ذكرتني بالدبل كيك الشهير لمناف رمضان في اللحظة التي نظرت فيها للتلفزيون ... لقد شاهدت هذا الدبل كيك عدة مرات قبلها وبعدها , لكنني لم أر في حياتي أبرع من العريف خلف به.... كنا في السرية نتسلى أحياناً بلعب الفطبول , وكان العريف خلف ابن دير الزور بارعاً وموهوباً أكثر من مناف رمضان وزيدان بهذا .
كان الجميع يحسده على لياقته وبراعته ثم توقف الجميع عن حسده ... ففي إحدى المشاريع كان علينا تجاوز حقل ألغام فردية للعدو .. كانت مجسمات حقيقية للغم ( أبو أركيلة ) الإسرائيلي تزرع المكان ... أحد هذه الألغام أودى بالرجل اليمنى للعريف خلف من أصل الساق .
غاب خلف ستة أشهر ثم عاد برجل واحدة وعكاز وشهادة تسريح طبي من أركان الجيش .
كان عليه أن ينهي إجراءات براءة الذمة قبل أن يتسلم هويته المدنية من ذاتية اللواء .
ذهبنا معه جميعاً لتوقيع براءة الذمة التي تتطلب إجراءات طويلة لا تنتهي  معززة بتواقيع ثلاثة أرباع المساعدين والمساعدين الأوائل بالجيش السوري .
دارت الورقة - التي تهرأت من كثر التدقيق والبقبشة والتواقيع - بكل سلاسة وصولاً إلى المساعد أول ( أبو سكندر ) مسئول المستودع الذي رفض توقيع براءة الذمة مصراً على تغريم العريف خلف بثمن البوط العسكري الذي كان يرتديه لحظة انفجار اللغم به .
لم تفلح محاولاتنا المتعددة في إقناع المساعد الأول الأمين على أموال الجيش العربي السوري بالتوقيع .. جل ما استطعناه هو تحويل الغرامة إلى مديرية مالية دير الزور إثر وعد مني بثلاثة كيلو غرامات سمك بلميدا أحضرها له عند عودتي من أول إجازة .
غادر خلف بغصّة , ولم نعد نسمع عنه شيئاً .
..
كانت المباراة قد انتهت هذه اللحظة .. عيناي المغرورقتان بالدموع أوحت للشباب أنها دموع الفرح بحبيب الجماهير زيدان .
ما زال رفاقي حتى اليوم يرونني أكبر مشجع لمنتخب فرنسا في تاريخ جبلة .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق