05‏/01‏/2013

المغاوري .. وتاريخٌ دُفنَ قسراً



..
تم وضع المخططات التنفيذية لتوسعة ميناء جبلة أيام الوحدة بين سوريا ومصر .. كانت الدراسة من وجهة النظر الهندسية لا بأس بها , لكنها كانت كارثة بكل المقاييس على الصعيد التاريخي .. تم الطمس شبه المتعمد للمرفأ 
الفينيقي القديم الذي يمتد في جذوره لأكثر من ألفين وخمسمائة عام , إضافة للعديد من الأوابد الأثرية الأحدث عهداً , والتي يعج بها شاطئ الميناء , ومنها مبنى الكازخانة ومقام المغاوري الشهير
.
كان المهتمون في العالم قد أدركوا عدم الوعي الكافي لدى حكومة الوحدة بالتاريخ القديم , وتعامل الجمهورية العربية المتحدة مع معبد أبي سمبل أكبر دليل , ألم يقل الثوروي الأول حينها عبد الناصر في أحد خطاباته : يريد الألمان والغرب الضغط على ج ع م لتغيير موقفها العروبي والقومي مستخدمين قضية نقل معبد أبي سمبل من مكانه كي لا تغمره مياه السد العالي من أجل تنازلات لا يرضى عنها هذا الشعب الأبي الصامد ... شوية الحجارة دي ياخدوها , مش عايزينها / .... " تصفيق ".
وبناء على هذه المعرفة المسبقة باللامبالاة المطلقة من قبل حكومة الجمهورية العربية المتحدة الممانعة 
أرسلت اليونيسكو والجهات الأكاديمية المهتمة في الغرب العديد من البعثات التوثيقية لهذا الشاطئ المغمور شبه المنسي , فرسموا وصوروا ووثقوا أدق التفاصيل , كما تقدموا بالعديد من المخططات الهندسية الأكثر جدوى وحماية لهذا التاريخ رفضتها حكومة الوحدة بأكملها بحجة امبرياليتها ومالها غير النظيف .
كان المسئولون الأميون في المكتب الثاني يجهلون سبب اهتمام بعض الجهات الأكاديمية في الغرب بهذا الميناء المنسي في تلك البلدة الصغيرة المنسية الواقعة شرق المتوسط , جاهلين كليةً أنه المرفأ الوحيد لمملكة سيانو التاريخية التي طوعت الجهات الغربية والشمالية الغربية لحوض المتوسط .
جاء الانفصال وتم تناسي الموضوع لسنوات حتى جاء تشرين التصحيح الذي ما يزال السوريون يدفعون ثمنه من دمائهم كل يوم .
تم تخصيص ميزانية محترمة – بمقاييس تلك الأيام - لدك أوابد الميناء وعلى رأسها المغاوري بفضل الجهود المباركة لجبرائيل سعادة وباقي الماسونيين السوريين بحجة الصالح العام .
كانت هناك بعض المآرب الشخصية في الموضوع , فالسيد جبرائيل وتلامذته مهتمون بإبراز أوغاريت التاريخية وطمس كل ما عداها في محافظة اللاذقية , كما كان المغاوري بشكل ما يزعجهم وكأن ثأراً شخصياً ما , بينهم وبينه .
كانت الشائعات عن ضريح عبد الله المغاوري وكراماته لا تنتهي في جبلة إبان العهد الوطني وما سبقه .. فهو شيخ صوفي صاحب كرامات لا تنتهي , جاء من المغرب واستقر في جبلة التي أحب .
البعض يقول أنه من مصر , وقلة تنسبه إلى الحجاز .. لكنهم جميعاً اتفقوا على دينه وتقواه وكراماته التي لا تنتهي , حتى أنهم عندما جاءت حفارات البعث لدك الضريح رووا كيف دافع فضيلته عن مقامه بقوة وشراسة .. فلقد تعطل البلدوزر المكلف بالهدم وباقي البلدوزرات حتى أعيا كفار البعث الحال فاكتفوا بردمه وعدلوا مخطط الكورنيش .
لم يكن هذا صحيحاً بطبيعة الحال , فلربما تعطلت آلية ما بالصدفة لحظة الهدم , لكن الخيال الجبلاوي الخصب قام بتعطيل كافة آليات دولة البعث كرمى للشيخ الورع .
كما أن المغاوري لم يكن شيخاً ولا صاحب كرامات وطريقة صوفية .. وحده جبرائيل سعاده ومريدوه يعرفون التفاصيل .. لقد باح بها مرة أمام شلة الأنس المتجمهرة يومياً بعد العصر في مكتبة مريده الأوفى جبرا لبس ( مكتبة الجاحظ ) باللاذقية .. مرة يتيمة لكنها كانت كافية لإخراج الأمر برمته من زوايا النسيان .
كان المغاوري أو عبد الله المغاوري هو عبد الله بن عبد الصمد المغواري نسبة إلى ( مغواره ) إحدى البلدات الصغيرة في المغرب العربي .
كان المجاهد المغواري أحد ضباط أمير البحر الأسطوري خير الدين بارباروس الذي دوخ أساطيل أوربا برمتها في القرن السادس عشر , وفي إحدى المواجهات مع الأسطول الجنوي قرابة قبرص أصيب القائد المرابط عبد الله المغواري إصابةً ثخينة وانسحبت فرقاطته المصابة أكثر منه وهى تعرج تحت جنح الظلام .
كانت التيارات البحرية القوية عند منطقة أندريا تدفع الفرقاطة الجريحة المكسورة الدفة باتجاه جبلة وكأن قدر قائدها أن يدفن هناك .
استشهد القائد المجاهد عند مشارف الميناء .. كان قد طلب أن يُصلّى عليه ويرمى في البحر فيما لو لم يصلوا اليابسة .. وأن يكون قبره عند أقرب نقطة من البحر الذي عاش فيه معظم عمره فيما لو وصلوها .
جنحت الفرقاطة في مياه الميناء الضحلة .... أنزل الجنود جثمان قائدهم الشهيد , وصلوا عليه ودفنوه حسب وصيته في أقرب نقطة من اليابسة إلى الماء .
ظل القبر قرابة خمسة قرون في عهدة أهالي جبلة الذين كانوا أمناء عليه , يتفقدونه عند كل مناسبة حتى جاء تشرين التصحيح ببركاته التي طالت الجميع بمن فيهم الشهيد المغاوري .
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق